فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عادل:

قوله: {ولو افتدى به} الجمهور على ثبوت الواو، وهي واو الحال.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف موقع قوله: {ولو افتدى به}؟
قلت: هو كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهبًا. انتهى.
والذي ينبغي أن يُحْمَل عليه: أن الله- تعالى- أخبر أن مَنْ مات كافرًا لا يُقْبَل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدُها، ولو في حال افتدائه من العذاب، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يميز فيها المفتدي عن المفتدى منه؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي.
قال أبو حيان: وقد قررنا- في نحو هذا التركيب- أن {لَوْ} تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصًا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله صلى الله عليه وسلم: «أعْطُوا السَّائِلَ ولو جاء عَلَى فَرَسٍ» وقوله: «رُدُّوا السَّائِلَ ولَو بِظِلْف محرق» كأن هذه الأشياء مما ينبغي أن يؤتى بها؛ لأن كون السائل على فرس يُشْعر بغناه، فلا يناسب أن يُعْطَى، وكذلك الظلف المحرق، لا غناء فيه، فكان يناسب أن لا يُرَدَّ به السائل.
قيل: الواو- هنا- زائدة، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أبى عبلة {لو افتدى به}- دون واو- معناه أنه جعل الافتداء شرطًا في عدم القبول، فلم يتعمم النفي وجود القبول.
و{لو} قيل: هي- هنا- شرطية؛ بمعنى إن لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره؛ لأنها متعلقة بمستقبل، وهو قوله: {فلن تقبل}، وتلك متعلّقة بالماضي.
قال الزجاج: إنها للعطف، والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبًا لن يقبل منه، ولو افتدى به لم تقبل منه، وهذا اختيار ابن الأنباري، قال: وهذا آكد في التغليظ؛ لأنه تصريح بنفي القبول من وجوه. وقيل: دخلت الواو لبيان التفصيل بعد الإجمال؛ لأن قوله: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا} يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية.
وافتدى افتعل- من لفظ الفدية- وهو متعدٍّ لواحد؛ لأنه بمعنى فدى، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى، نحو: شَوَى، واشْتَوَى، ومفعوله محذوف، تقديره: افْتدَى نفسه. والهاء في {به}- فيها أقوال:
أحدها:- وهو الأظهر- عودها على {ملء}؛ لأنه مقدار يملأها، أي: ولو افتدى بملء الأرض.
الثاني: أن يعوج على {ذَهَبًا}، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيان: ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء، أو على الذهب، فقوله: أو على الذهب غلط.
قال شهاب الدين: كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدَّثًا عنه، إنما جيء به بيانًا وتفسيرًا لغيره، فضلة.
الثالث: أن يعود على مِثْل محذوف.
قال الزمخشريُّ: ويجوز أن يُراد: ولو افتدى بمثله، كقوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَه} [الرعد: 18]، والمثل يحذف في كلامهم كثيرًا، كقولك: ضربت ضرب زيد- تريد: مثل ضربه- وقولك: أبو يوسف أبو حنيفة- أي: مثله-.
وقوله: [الرجز]
لا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ ** وَلاَ فَتَى إلاَّ ابْنُ خَيْبَرِيّ

وقضية ولا أبا حسن لها يريد: لا مثل هيثم، ولا مثل أبي حسن، كما أنه يزاد قولهم: مثلك لا يفعل كذا، يريدون: أنت لا تفعل كذا، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد.
قال أبو حيان: ولا حاجةَ إلى تقدير مثل في قوله: {ولو افتدى به}، وكأن الزمخشريَّ تخيَّل انَّ قدّر أن يُقْبَل لا يُمكن أن يُفْتَدَى به، فاحتاج إلى إضمار: مثل حتى يغاير ما نُفِي قبولُه وبين ما يفتدى به، وليس كذلك؛ لأن ذلك- ما ذكرناه- على سبيل الفرض والتقدير؛ إذ لا يمكن- عادةً- أن أحدًا يملك مِلْءَ الأرض ذهبًا، بحيث أنه لو بَذَلَهُ- على أيِّ جهةٍ بذله- لم يُقْبَل منه، بل لو كان ذلك ممكنًا لم يَحْتَج إلى تقدير مثل؛ لأنه نفى قبوله- حتى في حالة الافتداء- وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه، ولا معنى له، ولا في اللفظ، ولا في المعنى ما يدل عليه، فلا يقدر.
وأما ما مثل به- من نحو: ضربت ضربَ زيدٍ، وأبو يوسف أبو حنيفةَ- فبضرورة العقل يُعْلَم أنه لابد من تقدير مثل إذ ضربك يستحيل أن يكون ضربَ زيد، وذات أبي يوسف، يستحيل أن تكون ذاتَ أبي حنيفة.
وأما لا هيثم الليلة للمطي، فدل على حذف مثل ما تقرر في اللغة العربية أن لا التي لنفي الجنس، لا تدخل على الأعلام، فتؤثر فيها، فاحتيج إلى إضمار: مثل لتبقى على ما تقرر فيها؛ إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس؛ لأن العلمية تنافي عمومَ الجنس.
وأما قوله: كما يزاد في: مثلك لا يفعل- تريد: أنت- فهذا قول قد قيل، ولكن المختار عند حُذَّاق النحويين أن الأسماء لا تزاد.
قال شهاب الدين: وهذا الاعتراض- على طوله- جوابه ما قاله أبو القاسم- في خطبة كشافه- واللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي- وإن كان أنحَى من سيبويه- لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائقِ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائقِ، إلا رجل قد برع في علمين مختصَّين بالقرآن المعاني والبديع- وتمهَّل في ارتيادهما آونةً، وتعب في التنقير عنهما أزمنةً. اهـ. بتصرف يسير.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكافر لا يمكنه تخليص النفس من العذاب، أردفه بصفة ذلك العذاب، فقال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم. اهـ.

.قال الألوسي:

وفي تعقيب ما ذكر بهذه الجملة مبالغة في التحذير والإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرمًا. اهـ.

.قال ابن عادل:

ويجوز أن يكون {لهم}: خبرًا لاسم الإشارة، و{عَذَابٌ} فاعل به، وعمل لاعتماده على ذي خبره، أي: أولئك استقر لهم عذاب. وأن يكون {لَهُمْ} خبرًا مقدَّمًان و{عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة خبر عن اسم الإشارة، والأول أحسن؛ لأن الأخبار بالمفرد أقرب من الأخبار بالجملة، والأول من قبيل الأخبار بالمفرد. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا لَهُم مّن ناصرين}:

.قال الفخر:

والمعنى أنه تعالى لما بيّن أنه لا خلاص لهم عن هذا العذاب الأليم بسبب الفدية، بيّن أيضا أنه لا خلاص لهم عنه بسبب النصرة والإعانة والشفاعة، ولأصحابنا أن يحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة وذلك لأنه تعالى ختم تعديد وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عادل:

ويجوز في إعرابه وجهان:
أحدهما: أن يكون {مِّن نَّاصِرِينَ}: فاعلًا، وجاز عمل الجارّ؛ لاعتماده على حرف النفي، أي: وما استقر لهم من ناصرين.
والثاني: أنه خبر مقدَّم، و{مِّن نَّاصِرِينَ}: مبتدأ مؤخر، و{مِنْ} مزيدة على الإعرابَيْن؛ لوجود الشرطين في زيادتها.
وأتى بـ {ناصرين} جمعًا؛ لتوافق الفواصل. اهـ.

.قال ابن كثير:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} أي: من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدًا، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قُرْبة، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جُدْعان- وكان يُقْرِي الضيفَ، ويَفُكُّ العاني، ويُطعم الطعام-: هل ينفعه ذلك؟ فقال: لا أنه لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يوم الدِّينِ.
وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضا ذهبا ما قبل منه، كما قال تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123]، [وقال: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ}] [البقرة: 254] وقال: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36]؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} فعطف {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} على الأول، فدل على أنه غيره، وما ذكرناه أحسن من أن يقال: إن الواو زائدة، والله أعلم. ويقتضي ذلك ألا ينقذه من عذاب الله شيء، ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهبا، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا، بوَزْن جِبالها وتِلالها وتُرابها ورِمَالها وسَهْلها ووعْرِها وبَرِّها وبَحْرِها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجَّاج، حدثني شُعْبَة، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ. قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ أبيك آدَمَ ألا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلا أَنْ تُشْرِكَ». وهكذا أخرجاه البخاري، ومسلم.
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح، حدثنا حَمَّاد، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، خَيْرُ مَنزلٍ. فَيَقُولُ: سَلْ وَتَمَنَّ. فَيَقُولُ: مَا أَسْأَلُ وَلا أَتَمَنَّى إِلا أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مِرَار- لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ. وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ؟ فَيَقُولُ: يا رَبِّ شَرُّ مَنزلٍ. فَيَقُولُ لَهُ: تَفْتَدِي مِني بِطِلاعِ الأرْضِ ذَهَبًا؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، نَعَمْ. فَيَقُولُ: كَذَبْتَ، قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ فَلَمْ تَفْعَلْ، فيُرَد إلى النَّارِ».
ولهذا قال: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي: وما لهم من أحد يُنْقِذهم من عذاب الله، ولا يجيرهم من أليم عقابه. اهـ.

.قال الألوسي:

لطيفة في قوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}:
قال صاحب الانتصاف: إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطًا آخر، يعطف عليه الشروط المقترنة به ضرورة. والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبهًا على المسكوت عنه بطريق الأولى. مثاله: قولك: أكرم زيدًا ولو أساء، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره: أكرم زيدًا ولو أساء، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء، على أن إكرامه أن أحسن بطريق الأولى. ومنه: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]. معناه والله أعلم: لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم، فأوجبه تنبيهًا على ما هو أسهل وأولى بالوجوب، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عِمْرَان هذه مخالفة لهذا النمط ظاهرًا، لأن قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}. يقتضي شرطًا آخر محذوفًا، يكون هذا المذكور منبهًا عليه بطريق الأولى. وهذه الحال المذكورة، وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهبًا، هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها، فلذلك قدر الزمخشري الكلام بمعنى: لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبًا. حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهبًا هو أولى بالقبول منها، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى؛ فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور. وأما تنزيل الآية عليه فعسر جدًا، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله. فنقول: قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبًا يكون على أحوال:
منها: أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهرًا من مال القاتل على قول.
ومنها: أن يقول المفتدي في التقدير: أفدى نفسي بكذا- وقد لا يفعل-.
ومنها: أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدي به نفسه ويجعله حاضرًا عتيدًا، وقد يسلمه مثلًا لمن يأمن منه قبول فديته.
وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهو أن يفتدي بملء الأرض ذهبًا افتداء محققًا، بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارًا، ومع ذلك لا يقبل منه. فمجرد قوله: أبذل المال وأقدر عليه، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيهًا على أن ثم أحوالًا آخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة. وقد ورد هذا المعنى مكشوفًا في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36]- والله أعلم- وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم. ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليّ في يدي هذه. فتأمل هذا النظر فإنه من السهل الممتنع والله ولي التوفيق- انتهى-.
وثمة وجه ثان وهو أن المراد: ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في تلك الآية، فالمعنى لا يقبل ملء الأرض فدية، ولو زيد عليه مثله، والمثل يحذف كثيرًا في كلامهم، كقولك: ضربته ضرب زيد، تريد مثل ضربه. وأبو يوسف أبو حنيفة [؟؟]، تريد مثله. وقضية ولا أبا حسن لها، أي: ولا مثل أبي حسن. كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد: أنت. وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد، وعلى هذا الوجه يجري الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهبًا على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى.
ووجه ثالث: وهو أن لا يحمل {ملء الأرض} أولًا على الافتداء بل على التصدق، ولا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق، بل يكون شرطًا محذوف الجواب، ويكون المعنى: لا يقبل منه ملء الأرض ذهبًا تصدق به، ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه. وضمير به للمال من غير اعتبار وصف التصدق.
ووجه رابع: وهو أن الواو زيدت لتأكيد النفي. فتبصر. اهـ.

.قال أبو حيان:

وتضمنت هذه الآية من أصناف البديع: الطباق: في قوله: {طوعا وكرها}.
وفي: {كفروا بعد إيمانهم} في موضعين.
والتكرار: في: يهدي ولا يهدي.
وفي: {كفروا بعد إيمانهم}.
والتجنيس المغاير: في كفروا وكفروا.
والتأكيد: بلفظ: هم، في قوله: {وأولئك هم الضالون}.
قيل: والتشبيه في: {ثم ازدادوا كفرًا}، شبه تماديهم على كفرهم وإجرامهم بالاجرام التي يزاد بعضها على بعض، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
والعدول من مفعل إلى فعيل، في: عذاب أليم، لما في: فعيل، من المبالغة.
والحذف في مواضع. اهـ.